غزة- صمت القوى العظمى وتداعيات الإبادة القادمة.

لم يعد السكوت جائزًا حيال الفظائع التي تشهدها غزّة، ليس فقط على مستوى الرأي العام العالمي، الذي غالبًا ما يكون تأثيره محدودًا، بل على مستوى أصحاب النفوذ وصناع القرار في الدول الكبرى، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، وجمهورية الصين الشعبية، والدول الأوروبية، فضلًا عن العالم العربي والإسلامي بأكمله.
لقد تجاوزنا مرحلة الحلول الدبلوماسية الجزئية، والبيانات الرسمية الرصينة، والتصريحات المهدئة التي لا تُحدث تغييرًا حقيقيًا على أرض الواقع. بات من الضروري وضع حدٍ فوري لحرب الإبادة البشعة التي تُشنّ بأفظع الصور، من خلال سياسة التجويع الممنهج والتدمير المتواصل، ويجب السماح بدخول المساعدات الإنسانية دون أي قيود أو شروط، وضمان توزيعها بشكل عادل وفعّال من قِبل منظمات الأمم المتحدة.
صحيح أن بعض المواقف قد بدأت تظهر على المستوى الغربي، تنأى عن الرواية الإسرائيلية وتصف ما يجري في غزّة بالوضع اللاإنساني والمرفوض، إلا أن آلة القتل الإسرائيلية تواصل إبادتها دون أدنى اكتراث بالتحذيرات والمواقف الدولية. لم تتوقف هذه الآلة الجهنمية عن حصد أرواح الأبرياء من المدنيين العزل والشيوخ والأطفال، سواء كانوا في الخيام، أو تحت الأنقاض، أو حتى داخل المستشفيات التي يفترض أنها أماكن آمنة.
قصة الأم الثكلى آلاء حداد، التي فقدت تسعة من أبنائها وفُلذة كبدها، وترملت بزوجها، هي تجسيد مأساوي لوحشية آلة القتل الإسرائيلية. إنها صورة مُعبّرة ومؤثرة تعكس الوضع المأساوي في غزّة ككل، فمأساة الأم حداد ليست سوى جزء لا يتجزأ من مأساة كل الغزيين.
التجويع يُستخدم كأداة ضمن خطة ممنهجة تهدف إلى "تطهير" غزّة، كجزء من "الحل النهائي"، وهو المصطلح الذي استخدمه النازيون في الماضي للقضاء على اليهود. واليوم، نشهد فصلًا جديدًا من "الحل النهائي" للفلسطينيين، والذي يهدف إما إلى إبادتهم بشكل كامل، أو تهجيرهم قسرًا من أرضهم. أما الحديث عن أولوية إطلاق سراح الأسرى، فهو مجرد ذريعة واهية للتغطية على هذه الجرائم.
إن الوضع الراهن ينذر بتداعيات وخيمة لن تكون في صالح إسرائيل ولا الغرب على حد سواء. حتى الإسرائيليون أنفسهم، من سياسيين ومفكرين، بدأوا يعترفون بأن "رصيد المظلومية" لإسرائيل آخذ في التآكل، وأن الصورة التي تتشكل عن إسرائيل في الغرب أصبحت سلبية للغاية بسبب الجرائم التي ترتكبها في غزّة. أما على مستوى العالم العربي، فالشعور المتنامي لدى الجماهير هو رفض أي شكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل. وحتى وإن كانت إسرائيل قد أقامت علاقات رسمية مع بعض الدول، فإن الشعوب ترفض هذا التطبيع، وستبقى في دائرة ما يُعرف بـ "السلام البارد".
لقد برز جيل جديد في العالم العربي، يختلف تمامًا عن الصورة النمطية التي كانت تُروج قبل بضع سنوات، والتي تصور أن هذا الجيل لا يهتم بالصراع العربي الإسرائيلي ولا يكترث بما كان يُعتبر "أساطير الماضي". هذا الجيل الجديد يمتلئ بالغضب والسخط.
أما الغرب، فإنه يخاطر بفقدان رصيده الأخلاقي، الذي يتم الترويج له باعتباره قيمة موحدة لا تتجزأ. ويتعزز ما أسماه وزير الخارجية الفرنسي السابق هيبير فدرين بـ "الشلل الإستراتيجي" لأوروبا، مما يؤدي إلى ترسيخ عجزها وتأثير ذلك ليس فقط على صورتها ومكانتها، بل أيضًا على قدرتها على وضع وتنفيذ خطط دفاع مشترك في مواجهة ما تعتبره خطرًا روسيًا يهدد أمنها.
الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الوحيدة القادرة على وقف هذه العمليات الإجرامية من الإبادة والتجويع في غزّة. واستمرار هذه العمليات لا يمكن تفسيره على أنه مجرد عجز من جانب الولايات المتحدة، بل هو دليل قاطع على تواطئها وتورطها في هذه الجرائم.
من يتوهم بأن الأوضاع ستعود إلى طبيعتها بعد انتهاء الحرب فهو واهم. فمنسوب الغضب المتراكم لدى الفلسطينيين، وفي العالم العربي بأسره، والتذمر والاستياء الذي يظهر لدى العديد من الفعاليات الغربية، سيؤثر حتمًا على طبيعة العلاقات المجتمعية داخل الغرب. ويمكن أن نستشهد بحدثين بارزين يحملان في طياتهما بذور المواجهة والصدام، أولهما مقتل دبلوماسيين إسرائيليين اثنين أمام المتحف اليهودي في واشنطن، وثانيهما نشر تقرير مثير للجدل حول جماعة الإخوان المسلمين في فرنسا.
الحدث الأول ينذر بتصاعد العنف داخل المجتمعات الغربية، بينما يحذر التقرير المذكور من التوترات الكامنة داخل هذه المجتمعات، وذلك على الرغم من المنطلقات المغرضة التي استند إليها التقرير. إلا أن هناك حقيقة لا يمكن التستر عليها، وهي الأثر العميق الذي خلفته الحرب في غزّة على الجاليات المسلمة في أوروبا.
يمكن إخماد هذه النذر المروعة للتوتر والعنف من خلال الوقف الفوري للحرب على غزّة، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية وتوزيعها بشكل عادل، وإعادة إعمار غزّة المدمرة، والوقوف بحزم ضد مخططات التهجير القسري، والاعتراف الكامل بحقوق الشعب الفلسطيني العادلة والمشروعة. وإذا لم يتم ذلك، فإن العالم سيشهد فصولًا مروعة من الصراع والعنف، خاصة في ضفتي البحر الأبيض المتوسط، وداخل المجتمعات الغربية، وبين دول الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. يجب أن نكون على أهبة الاستعداد لمنع تحويل بؤرة التوتر من غزّة إلى داخل العالم العربي، من خلال مخططات شيطانية تهدف إلى تدمير كل شيء، حتى يتم "تطهير" غزّة بسهولة. وبتعبير أوضح، فإن الهدف هو خلق بؤر توتر كبرى، تصرف الأنظار عما يجري من فظائع في غزّة.
لطالما أشار الغربيون إلى الحرب العالمية الأولى باعتبارها حربًا لم يرغب فيها أحد، وأن القادة كانوا في حالة من الذهول تشبه حالة الشخص الذي يسير وهو نائم. ورغم ذلك، اندلعت الحرب وخلفت وراءها مآسي لا حصر لها.
نحن اليوم في وضع مشابه، نسير في حالة ذهول نحو الهاوية. وحده الضمير الحي هو ما يمكن أن ينقذنا، ولكن الضمير يبدو معطلًا. وإذا لم يتم تدارك الأمور في غزّة، من خلال الوقف الفوري لآلة الدمار والقتل، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية كأولوية قصوى، فلا أرى أن العالم سيكون في مأمن من كارثة إنسانية شاملة.